كلام بالعربيّة

كمال الرّياحي

التجديد والعبث مع الآلهة والقدر، كما تحريك ركود الطمأنينة، سمات كتّابٍ موهوبين، يُدخِلون القارئ عالم الرواية بفنّيّة عالية. هذا ما تشعر به وأنت تضع بين يديك إحدى روايات كمال الرياحي. روائي ومدرّب كتابة إبداعيّة وإعلامي تونسيّ حداثي متميّز. تمثّل كتاباته تحدّياً أمام القارئ لربط الحوادث وفك الرموز، بدءاً من تجربته الأولى مع القصّة القصيرة في “نوارس الذاكرة” (1999)، “سرق وجهي” (2001)، ثمّ رواياته “المشرط” (2007)، “الغوريلا” (2011)، وأخيرا “عشيقات النذل” (2015). فاز الرياحي في مسابقة “بيروت 39” التي نظّمتها مؤسّسة “هاي فيستيفال” في العام 2009. كما فازت روايته “المشرط” بجائزة “الكومار الذهبي” 2007 لأفضل رواية تونسيّة. ترجمت بعض أعماله القصصيّة والروائيّة إلى الفرنسيّة والإيطاليّة والإنكليزيّة والعبريّة والبرتغاليّة والبولونية والأسوجية.

أبرز ما يلفت في كتابات الرياحي، التنوّع الثقافي الذي يخدم المشهديّة، ويحيل القارئ على نصّ عميق، يخرج منه بدلالات كثيرة، مرّات تكون صادمة مخيفة وأخرى تتحلّى بالفكاهة العبثيّة. لا يتعمّد أن يكون عميقاً، “لأنّ ذلك سيجعلني متكلّفا. الروايات العميقة هي تلك التي لا تتعمّد العمق لذلك لا أنطلق من نظريات فلسفيّة أحاكيها، لكنّي مؤمن أنّ كلّ موضوع هو عميق بطبعه، لكنّ طريقة التناول هي التي تجعله يظهر عميقاً أو يتم تسطيحه”. أما “في خصوص المشهديّة فأنا كاتب مشهدي، فعلا، نتيجة تكويني السينمائي وممارستي للفوتوغرافيا والرسم، وكتاباتي للمسرح مذ كنت طالبا. وهذا منعكس في كتاباتي الروائية. أميل إلى التشخيص ومشهدة النص وأحيانا أختبر شخصياتي بتقمّص أدوارها وتمثيلها في الواقع، وبيتي مليء بأكسسوارات شخصيات كتبتها وتقمّصتها لذلك حتى ما يعرف باللوك يتغيّر، وصوري لا تشبه بعضها، لأنّ الصور التي ألتقطها لنفسي في الحقيقة ليست صوري إنّما صور شخصياتي. أنا أعيش في السينما من دون أن أمثّل في السينما. الكتابة السينمائيّة كتابة ممتعة لذلك معظم رواياتي تبدو مشاريع أفلام كما يقول أصدقائي المخرجين. أما قراءاتي فكثيرة بحيث لا يبقى منها ما يطغى على شيء. وهذه هي القراءة الحقيقية وليست تلك القراءة المنفعلة التي تجعل كاتبا معينا يسيطر عليك فتصبح نسخة رديئة منه. لا أريد أن أشبه أحدا، لذلك أنوّع في قراءاتي ومناخات قراءاتي وأساليب الكتب التي أقرأها حتى لا أعيش في جلباب أحد. فقط أهضم تلك القراءات وأدفع بها إلى المجاري لتبقى منها فقط فيتاميناتها التي تغذّي جسم المبدع ولا تؤثر فيه.

– تبدأ في روايتك الأخيرة، “عشيقات النذل”، بعبارة تتوعّد بـ”قطع الرؤوس”. وتطرح مسألتين، الأولى: هل لما يحدث في العالم تأثير مباشر أو غير مباشر في خياراتك أم أنها تكون محض مصادفة؟ المسألة الثانية: ألا ترى أنّ القارئ يلجأ إلى قراءة الروايات في محاولة منه للهرب من واقعه المحبط، تالياً يستطيع الكاتب أن يخفف عنه وقع الظلم والموت والخيانة؟

– لا أكتب للتسلية فقط ولا لكي أجعل الناس تنام، أكتب لكي “تركبكم” الكوابيس. أكتب بطريقة شريرة. أكتب الشر وما يجعل العالم ينقلب على رؤوس قرائي. أكتب لأنتقم من لحظة إقدامهم على لمس كتبي. هكذا فقط أحبهم ويحبونني لأنّ القراء الحقيقيين أوغاد وأنذال مثل الكتاب الحقيقيين. أكتب لكي أشرك قارئي في جريمة وأورّطه معي. لكي نقتلع عينا أو نبقر بطنا أو ندفع عشيقين من شرفة عمارة. أكتب لكي أُخرِج اللاوعي البشري الفظيع إلى السطح. إنها السوريالية حبيبتي، وكل ذلك في كوميديا سوداء تجعل الضحية تتحسّس مكان الطعنة وتضحك.

– كتبتَ “عشيقات النذل” على طريقة الكوميديا السوداء، وأعطيت للأنذال صوتا ومعنى فلسفيًّا عميقًا يثور على واقع المعطيات والأفكار المجتمعيّة الجاهزة. لماذا شخصيّة “النذل”؟

– ليس هناك، في الرواية، نذل بعينه إنما هي رواية في قلب الكليشيهات والنظر بطريقة أخرى للعالم. فالأنذال هم السادة والنبلاء والراقون، وهم الذين يخلقون العالم. أمّا الطيّبون فهُم الحمقى الذين لا يمثلون ثقلا ولا وزن لهم في هذا العالم. العبث مع العلم والآلهة والناس يجعل الحياة شيّقة ومثيرة وخطيرة أما الطمأنينة فهي أسرّة القطط.

– كذلك ترى أنّ العالم يعيش في ظل الماكينة الرأسماليّة والجنسيّة والبورجوازية. كروائي، كيف تكتب مستقبل هذا العصر؟

– المستقبل مستقبلٌ بلا معنى. هكذا يصل العالم إلى كل المعنى. أن يكون بلا هدف ولا يقين. الطبقات تتحكم الآن بعضها فوق بعض مثل الشاهقات التي دكّتها التفجيرات. لا أحد ينجو في المستقبل لكي يكون له مستقبل. نحن نسير إلى حتفنا الجميل. كائنات مدفوعة للعدم تأكل بعضها ويعرض بعضها لحمه على بعضها.

– بين الفانتازيا والحقيقة والمراوحة تكتب أعماق النفس البشرية وتكشف عن الأعشاش الصغيرة التي يتربى فيها الشر. تتمدّد الجريمة ولا تلبث أن تنفجر الدماء في السطح. إلى أي مدى تعتمد الرواية على العلوم الأخرى ومنها علم النفس؟ وماذا تضيف إليها؟

– على الروائي الحقيقي أن يكون رساما قليلا ومخرجا قليلا وشاعرا قليلا ومجرما كثيرا ورياضيا كثيرا ومهندسا وعالما للنفس أكثر من علماء النفس. فعالم النفس يشخص حالة أما الروائي فيخلق الحالة التي ستذهب إلى المحلل أو الطبيب النفسي. على الروائي الحقيقي أن يطيح نظريّات علم النفس ويخلق نظريّاته الجديدة. علماء النفس هم مشعوذو العصر وعلى الروائي أن يكون كبير المشعوذين.

– هل توجّه رسائل من خلال شخصيّات رواياتك؟

– لا أدري. ليس هناك كتابة بريئة بيضاء، ولا يمكنني إلا أن أوجّه رسائل إلى المناطق الأكثر ظلمة بالخروج فورا إلى السطح ومواجهتي ومواجهة الضوء. هكذا تكون المواضيع المحظورة هي هدفي في كثير من أعمالي لأني أعتبر أنها المكان الأكثر خصباً لتنمو داخلها القصص الجديرة بالكتابة. الكتابة اجتياح مملكة الطمأنينة وزراعة مستعمرات صغيرة للخيال.

– هل يشكّل الغموض والغرابة المسيطران على أسلوبك جزءًا من شخصيّتك؟

– الكتابة بناء وأنا لا أميل الى البناء المعقد ففي التعقيد إثارة وفي قراءته دهشة، وكتابة المكرور والبارد لا تعنيني. أريد أن أجعل قارئي يقرأ كتابي ويقوم واقفا مع كل فصل. هدف أتمناه أن يقرأني الناس وقوفا. ويوم أشعر أني أكتب للناس لكي تنام سأتوقف عن الكتابة. لست منوما إنما أريد أن أكون منشطا.

– أيّ الروايات تستهويك ولماذا؟

– لا أحب الروايات. أنا مجبر على كتابة روايات بحكم الازدحام الذي تعيشه مخيلتي. لكن ترهقني ولادتها. الروايات التي أكتبها لم أقدر على عيشها. وهي، في غالبها، تجارب قاسية، لأنّ ميكانيزمات الدفاع التي اكتسبتها جعلتني لا أغنم عيشها. الروايات التي أحبّ هي الروايات الخطرة وروايات التجارب المستحيلة. روايات لا تريح القارئ بل تدفعه إلى القفز من النافذة لكي يلحق بعصفور لوّث له فروة رأسه وهرب. أحبّ أن أكتب روايات مجنونة. لا أحب الروايات، أحبّ نساء الروايات اللواتي لم ألتق بهنّ في حياتي وأشعر بحزن عندما أخلق امرأة جميلة وأقدمها لشخصيّة روائيّة أخرى. لا يطمئن لي قلب ولا ذهن إلا بالإجهاز على تلك الشخصيّة “لأفش خلقي”. أشعر بالغيرة، الغيرة الوحيدة التي أشعر بها هي غيرتي من شخصيّات رواياتي عندما أراهم يتمتّعون بالجمال الذي خلقته. عليّ أن أقطع رؤوس كل الرجال الذين يتلصّصون على نسائي الجميلات. خلقي للرجال في رواياتي مجرّد اضطرار فنّي لشدّ الحبكة، بمعنى آخر مجرد كومبارس. لا أدري لماذا يصرّون على أن يتحوّلوا إلى أبطال.